حزَمتُ حقيبتي وقبَّلتُ أهلي وبسمة عريضة على وجهي، إذ أنّني كنتُ ذاهبة لقضاءِ فرصتي عند ابنة عمّي التي تعيشُ وتعمَل في بلَدٍ جميل معروف بمناخه المثاليّ أثناء موسِم الصّيف والمعروف بمُنتجعاته المُمتدّة على الشاطئ. في البدء مانَعَت والدتي رحيلي، لكنّ أبي استطاعَ إقناعها بالسماحِ لي بالذهاب إلى ميساء لأنّها إبنة أخيه وهو يكِنُّ لها مودّةً خاصّة منذ توفِّيَ والدُها ومِن ثمّ والدتُها وصارَت وحيدة. لِذا هي فضّلَت الهجرة بعدما وجدَت هناك عمَلًا جيّدًا، وحصَلَ أنّها أرسَلَت لوالدي هدايا كثيرة كَونهُ القريبَ الوحيدَ الذي تبقّى لها.
وصَلتُ المطار وكانت ميساء بانتظاري، فتعانَقنا وركِبنا سيّارتها وقصَدنا مسكنها، مكان لطيف مُزيّنٌ بذوق، وهي أعدَّت لنا وجبة طعام لذيذة قَبل أن أدخُل الغرفة المُخصّصة لي لأرتاح. وعندما إستفَقتُ، أخذَتني ابنة عمّي للتنزّه في شارع جميل مليء بالمحلّات والمقاهي.
لَم أكن أعرِف ميساء جيّدًا، بل رأيتُها مرّات معدودة خلال مناسبات قليلة، ولَم نتبادَل الحديث كثيرًا، بل فقط بضع كلمات. لكن فورَ وصولي إليها، شعرتُ أنّني أعرفُها جيّدًا، خاصّة أنّنا كنّا تقريبًا في السنّ نفسه. نمتُ في تلك الليلة وأنا أبتسِم، لأنّها كانت على ما يبدو فرصةً مليئة بالفرَح والاستكشاف.
بقيَت ميساء معي بعد أن أخذَت فرصة مِن عمَلها، وكنتُ ممنونة لها، فكيف لي أن أتدبَّر أمري في بلَد غريب؟ في يومنا الثاني، أخَذنا ملابس السّباحة وقصَدنا الشاطئ، حيث تسبَّحنا وتمدَّدنا تحت الشمس وسط عدَد هائل مِن الناس والسيّاح. بقيتُ أتّصِل بوالدَيّ مرّتَين في اليوم على الأقلّ، ليطمئنَّ بالُهما عليّ، فكنتُ ابنتهما الوحيدة التي جاءَت إلى الدنيا بعد ثلاثة صبيان، فحظيتُ بالاهتمام والحبّ والدَّلع الذي يليقُ بالابنة الوحيدة. في مساء يومنا الثاني، أخذَتني ميساء إلى مطعم أنيق، حيث يُقدّمون برنامجًا غنائيًّا وراقِصًا، وصفَّقتُ للفنّانين بقوّة.
فجأةَ، إقترَبَ منّي شاب محلّي وكلّمَني بلغّته التي لا أُجيدُها، لكنّني فهمتُ أنّه مُهتمّ بي. أبعَدَته ميساء عنّي، وقالَت له شيئًا لَم أفهَمه إلّا أنّه رحَلَ مُستاءً. ثمّ هي قالَت لي:
ـ إيّاكِ أن تُكلّمي أحَدًا هنا... أعني مَن هم مِن السكّان المحليّين، وخاصّة إن كانوا شبّانًا أو رجالًا.
ـ أنا لَم...
ـ هم يعرفون كيف يتودّدون إليكِ، صدّقيني. إفعَلي فقط ما أقولُه لكِ وستكونين بخير.
ـ لقد أخفَتِني، يا ميساء!
ـ وهذا هدَفي. الآن إنسي الموضوع واستَمتعي بالعرض.
نظرتُ مِن حولي، ولاحظتُ عدَدًا مِن الشبّان ينظرون بإمعان إلى طاولتنا، وكانوا بالفعل يُشبهون المُفترسين، فاقترَبتُ مِن ابنة عمّتي وقلتُ لها:
ـ ماذا يُريدون؟
ـ ماذا تعتقدين؟
ـ يُريدون التعرّف إلينا لأنّنا صبيّتان جميلتان.
ـ ليس تمامًا يا عزيزتي... كنتُ مثلكِ حين قدِمتُ إلى هذا البلَد، لكن سرعان ما فهمتُ ما يدورُ في بعض الأماكن.
ـ ما الذي يدور؟
ـ الإتجار بالنساء.
ـ لَم أفهَم!
ـ حسنًا... يتقرّبون منكِ ويعدونَكِ بالحبّ الأبديّ، ويجلِبون لكِ الهدايا ويأخذونكِ إلى أماكنَ جميلة... وحين تعتقدين أنّ الحياة تبتسمُ لكِ وأنّها بعثَت لكِ الفارس المُنتظَر...
ـ أجل؟
ـ إمّا يتزوّجكِ ويُعرِّفكِ على رجال آخَرين، أو يخطفكِ إلى مكان لا يعرِفه أحَد وتصيرينَ سِلعةً يستفيدُ منها مادّيًّا.
ـ أنتِ تكذبين! هذا لا يحصل سوى بالأفلام!
ـ إنّه بلَد جميل لكنّه خطِرٌ لمَن لا يعرفُ كيف يتفادى هؤلاء.
للحقيقة، لَم أُصدِّق ابنة عمّي، بل قلتُ في نفسي إنّها تُبالِغ ربّما لإخافتي وإبقاء عَينها عليّ، ففي آخِر المطاف هي وعدَت أبي أنّها ستهتمّ بي وتُحافِظ عليّ. وفي طريق العودة، كانت ميساء قلِقة وتنظرُ في مرآة السيّارة أثناء قيادتها. نمنا على الفور، وفي الصباح كنتُ قد نسيتُ الموضوع. وبالطبع لَم أنقُل لأهلي ما قالَته ابنة عمّي، وإلّا طالَبوا بعودتي على الفور!
أعرَبتُ لميساء عن نيّتي في التسوّق، لكنّها قالَت إنّها تعِبة بعض الشيء وتُفضِّل لو نبقى في الشقّة، ونطلبُ طعامًا لذيذًا بينما نُشاهِد أفلامًا على التلفاز. لَم يُعجِبني الأمر، لكنّني لَم أُجادِلها وهي اعتذرَت بحرارة منّي. باقي اليوم مرَّ ببطء وهدوء، إلّا أنّ ميساء بقيَت تقِف أمام النافذة بين الحين والآخَر وتتكلّم همسًا عبر الهاتف. وجدتُ الأمر مُريبًا خاصّة أنّها لَم تبدُ لي تعِبة، بل مهمومة.
في فترة بعد الظهر، دقَّ بابَنا رجُل محليٌّ ذو شوارب سوداء، ووقفَت ميساء معه عند الباب وتكلّما بصوت خافِت لبضع دقائق ثمّ رحَلَ الرجُل. سألتُها مَن يكون وهي قالَت إنّه أحَدُ جيرانها الذي أرادَ أن يُكلِّمها عن أمور مُتعلِّقة بالمبنى.
شعَرتُ بالملَل العميق، فلَم أُسافِر لأبقى بين أربعة جدران، وبدأتُ ألِحّ على ابنة عمّي لنخرج، إلى أن وافَقَت بشرط ألّا نذهب بعيدًا، بل نبقى في الجوار لأنّها لا تزال تعِبة. وجدتُ أنّ ذلك أفضل مِن لا شيء فقبِلتُ على مضض.
قصَدنا مقهى قريبًا منّا، وأكَلنا وشرِبنا لكن وسط صمت لَم أُحبُّه، فسألتُ ميساء:
ـ هل أنتِ مُنزعِجة مِن وجودي؟
ـ لا! لا يا حبيبتي، على العكس! لكن شاءَت الظروف أن أجِد نفسي غير مُرتاحة جسديًّا. لا تخافي، سأتحسَّن بسرعة و...
ثمّ هي نظرَت ورائي وتوقّفَت عن الكلام. إستدَرتُ وإذ بي أرى الشبّان نفسهم الذين كانوا في السهرة قَبل ليلة، وبينهم ذلك الذي حاوَلَ التكلّم معي. هم جلَسوا إلى طاولة مُجاوِرة وتصرَّفوا وكأنّهم لا يعرفوننا. للحقيقة، بدأتُ أشعرُ بالخوف، خاصّة لدى رؤية ملامِح ابنة عمّي، لأنّني فهِمتُ أنّنا لسنا بأمان. عندها قالت لي ميساء:
ـ لن نتحرّك مِن هنا، فمِن حولنا أناسٌ عديدون، أيّ أنّنا بأمان.
ـ ميساء، ما الذي يحصل؟؟؟
ـ لا تخافي... لن يُصيبكِ مكروه طالما أنا معكِ. لا تنظري إليهم أبدًا، بل تكلّمي معي!
ثمّ أخذَت ميساء هاتفها وبعثَت مِن تحت الطاولة رسالة لأحَد ما. بدأنا نتحدَّث عن أمور لا معنى لها، لكنّ قلبي كان يدقُّ بسرعة... إلى حين دخَلَ رجُلان المقهى وتكلّما مع الجالسين إلى الطاولة وخرَجوا كلّهم سويًّا بهدوء. أمسكَت ميساء بِيَدي وقالَت لي صارِخة: "هيّا بنا!".
عُدنا إلى الشقّة ركضًا، وبقيتُ أنظرُ ورائي لكن ما مِن أحَد كان يلحقُ بنا. عندما وصَلنا، طلبتُ من ابنة عمّي، وبِحَزم، أن تقول لي ما حصَل. وهي أجابَتني:
ـ إنّها عصابة، يسرقون الفتيات الجميلات أو يقنعونهنّ بالعَمل لدَيهم.
ـ وكيف عرفتِ ذلك؟
ـ لأنّهم حاولوا معي حين وصلتُ إلى هذا البلَد، لكنّني صبيّة واعية، فلَم أقَع في شباكهم. لا خوف منهم ما دمتُ بعيدة عن منطقتهم، لكنّني اقترفتُ خطأً كبيرًا حين أخذتُكِ البارحة لرؤية العرض، فلَم أعلَم أنّهم توسّعوا إلى تلك المنطقة.
ـ ومَن هما الرجُلان اللذان دخلا المقهى وأبعَدا أفراد العصابة؟
ـ عناصِر مِن الشرطة، تمامًا كالرجُل الذي دقَّ بابي اليوم بعد أن أعطَيتُهم بلاغًا. فالحكومة تُطارِدهم بقوّة لكنّها لا تعرِف دائمًا مَن هم وأين هم.
ـ يا إلهي... كيف عرفَت العصابة أين نحن؟
ـ هم راقبونا مذ ترَكنا السهرة ليلة البارِحة، فهم يريدونَكِ بسبب سنّكِ ولون شعركِ وعيونكِ، فأنتِ تُشبهين الأجانِب، وهذا الصنف مطلوب في هذا البلَد وخارجه. إسمعي، سترحَلين في الصباح، أفهِمتِ؟
ـ وأنتِ؟ لماذا تبقين هنا؟ أنتِ بخطر!
ـ أبقى هنا لأنّ قلبي هنا... أجل، لدَيّ حبيب وقريبًا سنتزوّج. ولستُ بخطر لأنّه شرطيّ.
ـ هو نفسه الذي...
ـ أجل، هو نفسه الذي دقَّ بابي اليوم. لا تخافي عليّ يا حبيبتي، فأنا بأمان. لكن لا يجدرُ بكِ البقاء هنا. إيّاكِ أن تُخبري أحَدًا بالذي حصَل فلا أريدُ أن يغضَبَ منّي عمّي!
ـ هل ستدعيننا إلى فرَحكِ؟
ـ بل سأذهب بعد الفرَح مع زوجي لزيارتكم. ما رأيكِ؟
تعانَقنا وخلَدنا إلى النوم. وفي الصباح غادَرتُ ذلك البلَد، وقصَّيتُ لأهلي أخبارًا ومُغامرات مِن نَسج خيالي ليطمئنّ بالهم.
بقيَ بالي مشغولًا على ميساء إلى حين تزوّجَتْ، فالعصابة لن تجرؤ على أذيّة زوجة شرطيّ! علِمتُ لاحِقًا أنّ عصابات كتلك موجودة في أماكنَ عديدة، حتّى في الغرب والبلدان المُتقدِّمة، فالرذيلة لا تعرفُ حدودًا أو جنسيّة أو دينًا. ومنذ ذلك الحين لَم أُسافَر وحدي أبدًا، بل دائمًا برفقة مجموعة، وفي رحلات منظََّمة مِن قِبل شركات معروفة تؤمِّن لنا دليلًا مِن البلد يرافقُنا، وآخَر محلّيّ يعرف الأماكن التي يُمكننا الذهاب إليها مِن دون أن نعرِّض أنفسنا للخطر.
حاورتها بولا جهشان