لدى وصول الخبَر، ركضتُ وزوجتي إلى بيت أمّي كالمجنونَين، فقالَت لنا عامِلة المنزل الأجنبيّة إنّ والدتي الحبيبة توفِّيَت ونحن أوّل مَن اتّصلَت بهما. بدوري، إتّصلتُ بالإسعاف وبأخي الوحيد، وقدتُ بسرعة فائقة لأصِل فأرى أنّ الجميع كان قد حضَر. فالجدير بالذكر أنّني وعائلتي نسكنُ على بُعد ساعة عن منزل أمّي. هناك وجَدنا المُسعفين الذين عمِلوا على إنعاش والدتي مِن دون جدوى، وطبيب العائلة، وأخي فايز وزوجتُه مُنى. بكيتُ كثيرًا تلك المرأة الرائعة، وودّعتُها بحرارة عند مجيء موظّفي دفن الموتى ليأخذوها، فلَن تقَعَ عينايَ عليها بعد ذلك أبدًا. إصطحَبنا معنا العامِلة المسكينة التي وجدَت نفسها فجأة مِن دون أمّي التي كانت تُحبُّها كثيرًا، بعد أن بقيَت في خدمتها طوال أكثر مِن عشر سنوات. أكّدتُ لها أنّها ستبقى معنا إلى حين تجِد منزلًا آخَر. وفي تلك الليلة، بكينا جميعًا في بيتنا، خاصّة أولادنا الذين فقدوا جدّة مُحِبّة ومُميَّزة.
أقَمنا مراسِم الدفن وعُدنا إلى حياتنا وقلبنا جريح. وبعد فترة قصيرة، قرّرتُ وأخي أن نعودَ إلى بيت أمّي مع زوجتَينا والعامِلة لتوضيب أغراض الوالِدة. كنتُ حزينًا وسعيدًا في آن واحِد، حزينًا لأنّني سأعودُ إلى المكان الذي لفظَت فيه أمّي أنفاسها الأخيرة، وسعيدًا لأنّني سألمُس كلّ ما يخصُّها وأعيشُ مِن خلال تلك الأغراض حياتي معها.
عمِلنا بصمت تخلّلَته بين الحين والآخَر لحظات مليئة بذكريات مُشتركة بيني وبين أخي، فأخذنا نتبادَل التعليقات المؤثِّرة عن فستان ارتدَته أمّنا في مُناسبة مُعيّنة، أو صحون أكَلنا فيها في ما مضى في ذلك البيت العائليّ. وجاء دور ما هو أثمَن، أيّ أوراقها الخصوصيّة ومجوهراتها. مُجوهراتها؟!؟ أين كانت تلك العلبة ذات الأدراج المُتعدِّدة، والمليئة بالخواتم، والعقود، والأحلاق؟!؟ بحَثنا عنها في كلّ مكان: في غرفة نومها وبعد ذلك في كلّ أنحاء البيت... إلى حين وجَدناها أخيرًا داخِل غسالة الملابس، ولكن فارِغة! فهِمنا على الفور أنّ المُجوهرات سُرِقَت! نظَرنا إلى بعضنا ثمّ رحنا نتفقَّد الأبواب والشبابيك، لنرى إن كان قد دخَلَ سارقٌ بعد موت والدتنا، لكن ما مِن أثَر للدخول عنوة. واستنتجَتُ وفايز أنّ لا بدّ للسارق أن يكون أحَدنا، فلَم يقترِب أيّ مِن المُسعفين أو الطبيب مِن غرفة نوم أمّنا، لأنّها ماتَت على كرسيّها في الصالون. فاقترَحَ أخي على الفور أنّ العامِلة الأجنبيّة هي حتمًا المُذنِبة، لكنّني لَم أقتنِع، لأنّ تلك المرأة أعربَت عن وفاء وأمانة خلال سنوات طويلة.
إجتمَعنا كلّنا، ما عدا العامِلة، في إحدى غرَف البيت ودارَت مُناقشة حادّة بيني وبين أخي فايز وبين زوجتي ومُنى، فاقترحَت هذه الأخيرة أن نذهب كلّنا إلى بيتنا ونُفتِّش أمتعة العامِلة، مِن دون أن نقول لها شيئًا مُسبقًا. رفضَت وزوجتي، لكنّني قبِلتُ أخيرًا فقط لإبراز براءة تلك المسكينة. وهكذا رجِعنا جميعًا إلى مسكننا، وأخذَت زوجة أخي تُقلِّب أمتعة العامِلة أمامها وهي تبكي وتستنكِر. أخذتُها مِن كتفَيها وشرحتُ لها أنّ ما يحصل هو لصالحها، وأنّني وزوجتي مُتأكّدان مِن عدَم ضلوعها في السرقة.
وكما توقّعتُ، لَم تجِد مُنى المجوهرات، لكنّها نظرَت إليّ وزوجتي وقالَت:
ـ إذًا، أحَدكما هو السارِق!
إنتابَني غضبٌ شديد ولولا أنّ زوجتي أمسكَت بي، لكنتُ مُستعِدًّا لإسكات تلك المرأة البغيضة على طريقتي! تدخَّلَ فايز وأمَرَ زوجته بالتوقّف عن إلقاء التهم، وأنا طلَبتُ منهما أن يرحَلا مِن بيتي تجنّبًا للمشاكل.
إحتارَت زوجتي مَن تواسي، أنا أو العامِلة، وبعد فترة قصيرة هدأنا قليلًا. لكنّ العامِلة أعربَت عن نيّتها بالعودة إلى بلدَها خوفًا أن يتّهمُها أحَدٌ رسميًّا بالسرقة وتجِد نفسها في السجن فقط لأنّها أجنبيّة ولن يُصدِّقها أحَد. طمأنُتها بأنّني لن أسمَحَ بأن يحصل ذلك، ونمنا في تلك الليلة مُضطربين، خاصّة الأولاد الذين شهِدوا ما حصَل وخافوا علينا.
لكنّ أخي وزوجته قصَدا بالفعل القسم في اليوم التالي، وقدَّما شكوى ضدّ مجهول، لكنّهما أفصَحا للشرطة عن شكوكهما بأنّني وزوجتي قد نكون مَن سرَقَ المجوهرات. وهكذا زارَنا شرطيّان وطلَبا منّا إفادتنا، وإن كان مِن المُمكن أن يُفتِّشا المنزل، فلَم يكن لدَيهما بعد إذن رسميّ بالتفتيش لكنّ تعاوننا كان مُرحّبًا به. وبالطبع قبِلتُ، فلَم يكن لدَيّ ما أخاف منه. وبينما كانا يفتحان الخزائن ويقلبان الفراش، أخذتُ هاتفي وبدأتُ أصرخُ على أخي مِن كثرة غضبي منه. كيف يفعل ذلك بنا؟!؟
وبعد أن فتّشَ الشرطيّان كلّ الأماكن المُمكنة، حتّى غُرَف الأولاد والسيّارة، إعتذرا منّا ورحَلا. كنتُ مُنهارًا تمامًا، فكيف لأخي أن يتّهمَني بالسرقة ويبعَثُ لي الشرطة؟ أين الأخوّة والسنوات الطويلة التي تقاسَمنا خلالها الطعام والدراسة والذكريات؟ وكلّ ذلك مِن أجل بعض المُجوهرات؟!؟
قطَعتُ نهائيًّا علاقتي به، ومنَعتُ أفراد عائلتي مِن ذِكر اسمه وزوجته أمامي. مرَّت الأيّام والأسابيع والأشهر وبقيَ قلبي حزينًا على فقدان أخي الوحيد، ولأنّ تلك المسألة حجبَت موت أمّي ومنعَتني مِن البكاء عليها كما يجِب. وكما قد أوصَيتُ، لَم يذكُر أيّ مِن أفراد عائلتي أو العامِلة الحادِثة ومُفتعليها، لكنّ ابنتي البِكر كانت بالمرصاد، أيّ أنّها بقيَت تُتابِع أخبار أخي وعائلته عبر مواقِع التواصل الاجتماعيّ.
وذات يوم، سمِعنا إبنتنا تصرخ مِن داخل غرفتها وبأعلى صوتها: "لقد وجدتُها! أنا أذكى فتاة في الكون! وأقوَاهنّ!".
ركَضنا لنرى ما يحصل، وإذ بها ترينا هاتفها المحمول وهي تضحك. ورأينا مُنى، زوجة أخي، في إحدى الصوَر وهي لابسة أحَد عقود أمّي التي "اختفَت" مِن علبة المجوهرات! لَم يكن هناك شكّ في الموضوع، إذ أنّ ذلك العقد كان فريدًا مِن نوعه، فالمرحوم أبي أهداه لها بعد أن أوصى صانعه بإضافة تفاصيل مُعيّنة عليه.
جلَسنا في الصالون لنتحدّث عن الخطوة التي علينا أخذها. فعلى خلاف أخي، لَم أكن أنوي جرّه إلى الشرطة، فتلك الأمور عليها أن تبقى ضمن العائلة. طلبتُ مِن ابنتي أن تلتقِط صورة عن شاشتها، تُبيّنُ التاريخ والساعة والعقد طبعًا، لأنّني كنتُ على يقين مِن أن تلك الصورة ستُحذَف قريبًا مِن الحساب. ثمّ اتّصلتُ بفايز وأخبرتُه بما رأيناه وأرسَلتُ له الصورة مُضيفًا:
ـ لا أدري إن كنتَ على عِلم بسرقة مُنى للمُجوهرات، أيّ أنّكَ شريكها. وفي حال لَم تدرِ بالأمر، الآن تعرفُ الحقيقة. إفعَل ما عليكَ فعله.
سكَتَ أخي مُطوّلًا وقال جملة واحدة: "أنا آسِف. سأتصرَّف".
وكما توقّعنا، حذفَت مُنى الصورة وصوَرًا عديدة أخرى، قَبل أن تُقفِل حسابها نهائيًّا. لَم أسمَع مِن فايز لكنّني ارتَحتُ أنّنا، بفضل ابنتنا، استطَعنا إثبات براءتنا رسميًّا.
وذات يوم، دقَّ فايز بابنا وفي يَده حقيبة قائلًا: "لَم أعُد أتحمَّل العَيش مع تلك المرأة، هل لكَ أن تستقبلَني لفترة قصيرة قَبل أن أعرف ما عليّ فعله بزواجي وحياتي؟". وبدأ المسكين بالبكاء فعانقتُه وأدخلتُه البيت. أعطَيتُ تعليمات لعائلتي بمُعاملة فايز باحترام ومحبّة، فهو أخي وضَيفي. وبعد أن هدأ فايز قليلًا، قالَ لنا:
ـ للحقيقة، ولستُ فخورًا بنفسي، مُنى هي التي حرَّضَتني ضدّكم، وأقنعَتني بأنّكم مَن سرَق المُجوهرات. غضبي تجاهكم لَم يكن بسبب ثمَن المجوهرات، بل لأنّني شعرتُ بأنّكم خنتُم ثقتي، خاصّة أنتَ يا أخي. حزِنتُ كثيرًا لفقدان أخ ليس لدَي سواه، وأقنَعتُ نفسي بأنّكَ لستَ الانسان الذي خلتُه. لكن حين أرسَلتَ لي صورة مُنى وهي ترتدي عقد أمّي الذي كان بين المجوهرات التي اختفَت، واجهتُها وهي بدأَت تصرخ وتُهدِّد وتقول: "تلك المجوهرات هي مِن حقّي، مِن حقّي! لن أسمَحَ لأحَد غيري بأخذها! يكفي أنّني تحمّلَتُ أمّكَ لسنوات وادّعَيتُ أنّني أحبُّها وأجبَرتُ نفسي على التمثيل خلال الغدوات الأسبوعيّة والمُناسبات، وحين كانت تأتي لزيارتنا! أجل، أخذتُ الحُلى ولستُ نادِمة على ذلك!". عندها صفعتُها، وكانت تلك أوّل مرّة في حياتي، لكنّني لَم أستطِع استيعاب هذا الكمّ مِن الوقاحة والبغض وقلّة الأخلاق. حملتُ الحقيبة وجئتُ إليكَ يا أخي... فأنتَ ملجئي الوحيد. سامِحني أرجوكَ!".
بكينا جميعًا، وأكّدتُ لفايز أنّني لا أزال أحبُّه وأنّه في بيته ويُمكنُه البقاء فيه قدر ما يشاء.
حاوَلَ فايز استرجاع المجوهرات مِن زوجته، لكنّها بقيَت ترفضُ حتّى بعدما هدّدَها بالطلاق. وأمام رفضها القاطِع، هو طلَّقَها بالرغم مِن تدخّل أولاده الذين، للأسف، وجدوا أنّ أباهم يُبالِغ بموقفه تجاه ما فعلَته أمّهم. فراحَ إلى القسم وأسقَطَ الدعوى مُدّعيًا أنّه وجَدَ المجوهرات. عاشَ فايز في بيتنا إلى حين وجَدَ زوجة أخرى، أيّ بعد ثلاث سنوات. وخلال تلك الفترة كنتُ وايّاه كالصبيَّين الصغيرَين وكنّا بالفعل سعيدَين للغاية. بقيَت أيضًا العامِلة الأجنبيّة معنا، وهي لا تزال بيننا ولن أُكافئها كفاية على تفانيها ووفائها. أمّا بالنسبة لمُنى، فهي أعادَت نشاطها على حسابها على ذلك الموقَع، وتُظهِر سعادتها مع أولادها، ومع الحلى المسروقة التي تلبسها في الصوَر بفخر واعتزاز!
حاورته بولا جهشان