ترَكتُ أمري لله...

كانت زوجتي قد تركًتني وسافرَت مع ولدَينا إلى بلَدها، وحصلَت على الحضانة الحصريّة بعدما إتهمَتني بأنّني قد عنّفتُها وولدَينا، الأمر الذي لَم يكن صحيحًا طبعًا. أصِبتُ بالكآبة، فكيف لها أن تفصلني عن صغيرَيّ؟ صحيح أنّنا لَم نكن مُتوافقَين على شيء ووجَبَ علينا الانفصال، لكن لماذا هذا الكمّ مِن الكُره والغضب تجاهي؟ فأنا لَم أُسِئ إليها أبدًا، بل بقيتُ حتّى آخِر لحظة لطيفًا معها ووفيًّا لها.

حاوَلَ الجميع مواساتي، لكنّني فضّلتُ الانعزال في شقّتي في بلَدي ولَم أخرج سوى للذهاب إلى عمَلي. نصحَني المُحامي بعدَم الاتّصال بولدَيّ بل الصبر حتّى يكبرا قليلاً ويستطيعا أخذ القرار بالتواصل معي أم لا. صبِرتُ لكن على مضض وصبَبتُ اهتمامي على الشغل، فلَم يعُد لي سواه.

مرَّت حوالي السنتَين حين التقَيتُ بسعاد عند أصدقاء لي الذين، بعد جهد جهيد، أقنعوني بالذهاب إلى بيتهم لقضاء سهرة لطيفة. ما لَم أكن أعرفه هو أنّهم دبّروا لي عروسًا. وللحقيقة، أُعجبتُ كثيرًا بهذه المرأة الجميلة والمُثقّفة التي، بوجودها، أعطَت طابعًا مرِحًا للسهرة. علِمتُ لاحقًا أنّ سعاد أرملة ولدَيها إبنة مُراهِقة، فأعجبَتني الفكرة لكثرة شوقي لولدَيّ. هل كان الله قد بعَث لي عائلة بديلة؟

بدأتُ أُواعِد سعاد وهي عرّفَتني على ديما إبنتها فوجدتُها صبيّة جميلة ومُهذّبة. مِن ناحيتها، لَم تُبدِ ديما حماسًا لي أو انزعاجًا منّي، وكان ذلك طبيعيًّا بالنسبة لمُراهِقة، فكلُّنا نعلَم كيف يكون المُراهقون.

عرضتُ على سعاد رسميًّا الزواج وهي قبِلَت بي بعد أن أخذَت موافقة ابنتها، وهما انتقلَتا للعَيش معي بعد عقد الزواج. بدأَت زوجتي بتزيين البيت حسب رغبتها، وفرَشنا غرفة جميلة لِديما بعد أن اختارَت بنفسها الأثاث والألوان. بعد ذلك تحضّرتُ لعَيش حياة جميلة مع عائلتي الجديدة.

وبعد حوالي السنة، وُلِدَت لنا إبنة جميلة وسط فرحة عارمة. ها قد صارَت لي بنتان، الأمر الذي عدَّلَ خسارتي السابقة، إلا أنّ ذلك لَم يُخفِّف مِن حزني على بُعدي عن ولدَيّ مِن زواجي السابق، ورغبتي بالانضمام إليهم في يوم مِن الأيّام.

لعِبَت ديما دور الأخت الكبيرة، بل حضنَتها لدرجة أنّ المرء يخال أنّها أمّها. كلّ شيء كان يجري بصورة مُمتازة، وكنتُ بالفعل رجُلاً سعيدًا... إلى حين توفّيَت زوجتي الحبيبة بعد ثلاث سنوات. موتها كان مُفاجئًا إذ أنّها كانت تتحلّى بصحّة مُمتازة وبنية قويّة. لكن ما نفع الصحّة والقوّة أمام سائق مُتهوّر لا يُقدِّر أبعاد قيادته المُميتة؟ دفنتُ سعاد وقلبي يكاد ينفرِط مِن الحزن عليها، فهي كانت شمسي الساطعة التي تُنيرُ حياتي وتُعطيها الدفء والأمان. ألَم يكن مكتوبًا لي أنّ أنعَم بهذه الدنيا؟!؟

حمَدتُ ربّي أنّ ديما كانت قد صارَت كبيرة كفاية لتُعطي أختها الصغرى ما يلزم مِن حنان، ومُساعدتها لتخطّي موت وغياب أمّها، لأنّني بالفعل كنتُ في حالة يُرثى لها. أخذتُ إجازة مِن عمَلي، وحبَستُ نفسي في البيت وقضَيتُ أيّامًا أحدّقُ في الفراغ طوال الوقت. بعد فترة بدأتُ أتحسّن قليلاً، لكنّني كنتُ مثل الرجُل الآليّ أقومُ بواجباتي في العمَل وفي البيت مِن دون حماس أو فرَح.

إقتنعَت صغيرتي أنّ أمّها ملاك في السماء، لكنّ ديما كانت تُدرِك أنّ الواقِع أكثر مرارة ووحدة. صرتُ أخيرًا أقضي بعض الوقت مع الفتاتَين، لكنّني لاحظتُ أنّهما لا تُعيراني أهمّيّة كبيرة بل شكّلَتا فريقًا مُتماسِكًا في وجهي. فبعد وقت، لَم أعُد الآمِر الناهي في البيت، بل ديما التي اعتادَت خلال فترة كآبتي أن تُديرَ الأمور وأختها. شعرتُ بأنّ زمام الأمور ستفلِت مِن يدَيّ، إذ أنّ طلَباتي وأوامري ونصائحي باتَت كلامًا في الريح. فكلّما كنتُ أوجّه ملاحظة لابنتي، كانت تنظرُ إلى ديما لتعرف منها إن كان عليّها إطاعتي أم لا. وبدورها، كانت ديما إمّا توافِق أو تعترِض. قرّرتُ الصبر على ذلك الوضع المُزعِج، فكلتا الفتاتان فقدتا أمّهما، أيّ الإنسانة الوحيدة في الدنيا التي لا تعوَّض، ولَم يكن عليّ أن أزيدَ على مُعاناتهما.

لكن بعد حوالي السنة على موت سعاد، جاءَت ديما إليّ لتقول لي بكلّ برودة:

 

ـ سآخُذ أختي ونذهب إلى بيت خالي الذي عادَ مِن السفَر.

 

ـ حسنًا لكن لا تتأخّرا كثيرًا.

 

ـ أنتَ لَم تفهَم قصدي... سنذهب إلى خالي للعَيش معه وعائلته بصورة دائمة.

 

ـ ماذا؟!؟

 

ـ أجل، سنكون بأفضل حال هناك.

 

ـ أعلَم أنّني كنتُ بحالة سيّئة بعد موت أمّكِ، لكنّني عدتُ كما في السابق. أنا هنا مِن أجلكما وتستطيعان الاتّكال عليّ.

 

ـ هذا لا يهمّ. نُريدُ الرحيل.

 

ـ تتكلّمين وكأنّ ابنتي قادرة على إبداء أيّ رأي. بل قولي إنّكِ تُريدين أنتِ الرحيل.

 

ـ أجل.

 

ـ إرحلي إذًا، فأنتِ صرتِ كبيرة كفاية لتتّخذي قرارتكِ.

 

ـ سأرحل وآخُذ أختي معي.

 

ـ لن يحصل ذلك أبدًا. لستُ أباكِ فلا أستطيع إرغامكِ على شيء، لكنّ ابنتي هي تحت وصايتي. لماذا لا تُحبّيني يا ديما؟ ماذا فعلتُ لكِ؟ ألَم أُعاملكِ جيّدًا منذ البدء؟

 

ـ لا دخل لهذا بقراري، فأنا لَم أحبُّكِ يومًا، إلا أنّني قبلتُ أن تتزوّج مِن أمّي فقط لنعيش بعيدًا عن العوز. لَم أعُد بحاجة إليكِ الآن، فأستطيع إيجاد عمَل وسيُساعدنا خالي. سآخذُ أختي معي فهي كلّ ما هو مُتبقٍّ لي.

 

ـ لا تستطيعين أخذ ابنتي منّي يا ديما، كفاكِ ترهات.

 

ـ بلى... لو قُلنا إنّكَ تُعنِّفنا.

 

ـ ماذا؟!؟

 

ـ ألَم تفقد حضانة ولدَيكَ لهذا السبب؟ لقد سمُعتكَ مرارًا تتحدّث مع أمّي عن هذا الموضوع. أعلَم أنّكَ رجُل مُسالِم وغير عنيف، إلا أنّ المحكمة ستُصدّقني وأختي حتمًا، خاصّة بعدما الذي حصَلَ معكَ في زواجكَ الأوّل. ولو كنتُ مكانكَ لقبلتُ برحيلنا مِن دون مُناقشة.

 

ـ أنتِ الشرّ بحدّ ذاته! ماذا فعلتُ لكِ لتكنّي لي هذا الكمّ مِن البغض؟ فلقد اعتبَرتُكِ وعاملتُكِ منذ البدء وكأنّكِ ابنتي.

 

ـ لستُ ابنتكَ ولستَ أبي! هل تصوّرتَ بالفعل أنّكَ تستحقّ الحلول محلّ أبي؟!؟ أنتَ بالفعل مُغفّل!

 

ـ أصمتي! لا أسمحُ لكِ بالتكلّم معي بهذه الطريقة! سأتركُكما ترحلان لمدّة أسبوع فقط وبعد أن أُكلّمَ خالكِ. بعد ذلك، سأتصرّف. لا تعتقدي أنّني سأتخلّى عن صغيرتي. كنتُ أودّ أن أتمسّك بكِ أنتِ الأخرى، لكن مِن الواضح أنّكِ تكرهيني لدرجة حرماني مِن ابنتي وتأليف الأكاذيب ضدّي.

 

للحقيقة لَم يكن أمامي خيار آخر، فكان عليّ التفكير مليًّا بالذي يحصل وسيحصل كَي لا أفقدَ ابنتي إلى الأبد. إتّصلتُ بخال ديما وطلبتُ منه الاهتمام جيّدًا بالفتاتَين، وأطلعتُه بنيّتي التواصل معه على مدار الساعة لمعرفة أخبارهما. وهو وعدَني أنّه وزوجته سيهتمّان بهما جيّدًا وأنّ لا داع للقلق. يا إلهي... ماذا سيحصل لي ولابنتي؟!؟

رأيتُ مُحام وعرضتُ عليه الوضع، فلَم يُبشّرني بالخير إذ أنّ شهادة ديما كافية لإقناع القاضي، خاصّة لو وافقَتها صغيرتي الرأي. هو نصحَني بترك الفتاتَين فترة إضافيّة عند الخال على أمَل أن تهدأ الصبيّة قليلاً. لكنّني كنتُ أعرف أنّ ديما لن تلينَ أبدًا بسبب كرهها لي الذي أخفَته لسنوات.

بعد ذلك، قصدتُ رجُل دين لكثرة حاجتي للتكلّم مع إنسان روحانيّ، فقط ليُطمئنُ بالي مِن حيث رعاية الله لي بعد أن فقدتُ سعاد وأخذَت ديما إبنتي. إستمَعَ لي رجُل الدين المُسنّ والحكيم، ثمّ قال لي:

 

ـ الله يُحبُّنا يا بُنَي... يُحبُّنا كثيرًا وهو خلَقنا لنكون سعداء. هو لا يُسبّب لنا الأسى أو الأذى. لا تخَف، خالقُنا يرى كلّ شيء ويأسف لنا حين نكون في مأزق، ويُساعدنا على تخطّي صعابنا. عليكَ أن تؤمِن بقدرته وحبّه لكَ وسهَره على سعادتكَ. أترك الأمر له، فهو يعرف ما هو جيّد لكَ.

 

ـ أتركُ الأمر له؟ أيّ أنّني أبقى جالسًا ومكتوف اليدَين؟!؟

 

ـ هل لدَيكَ حلّ آخَر؟

 

ـ للحقيقة لا.

 

ـ إذًا صلِّ يا بُنَيّ ولا تملّ... دَع الذي خلَقَ الكون والكواكب والمخلوقات أجمَع يتصرّف بكَ كما يشاء، فنحن ملكه حصريًّا.

 

ـ وإن هو قرَّرَ عدَم إعادة ابنتي لي؟

 

ـ ومَن تكون لمُناقشة قرارات الله؟

 

ـ لا أحَد.

 

ـ تمامًا. إرحَل الآن وابدأ بالصلاة والتأمّل وثِق بالله.

 

كلام رجُل الدين أراحَ قلبي، فعلى كلّ الأحوال، لَم يكن لدَيّ حلّ آخَر على الاطلاق. للحقيقة، لَم أفكِّر يومًا بطبيعة الله وقدرته وإرادته سوى مِن جانب سطحيّ جدًّا. ربّما كان قد حان الوقت لأتعمّق في الموضوع.

بقيتُ على إتّصال مع ابنتي بواسطة خال ديما وشكرتُه كثيرًا على دعمه لي. فقد وجدتُ ذلك الرجُل عاقلاً للغاية واطمأنّيتُ لاهتمامه بصغيرتي، وحتّى بِديما التي كنتُ أكنُّ لها حبًّا أبويًّا حقيقيًّا. مرَّت أشهر صلَّيتُ خلالها كثيرًا، وتجنّبتُ التوتّر والغوص في الهموم كما نصحَني رجُل الدين أن أفعل. تمنَّيتُ أن يلتفِتَ لي الله ويُصلِحُ أموري، لكن مِن جهة أخرى تعلّمتُ أن أتركَ زمام الأمور له.

وفجأة حصَل ما لَم أتوقّعه أبدًا: قرعَت ديما بابي بصحبة ابنتي الصغيرة ووقفَتا عند الباب بصمت. طلبتُ مِن ديما الدخول بينما ارتمَت ابنتي بين ذراعَيّ لكثرة شوقها لي. جلَسنا في الصالون مِن دون أن نتكلّم، فخفتُ أن أقول ما قد يُزعجُ ابنة زوجتي وترحَل مِن جديد. إلا أنّها قالَت لي:

 

ـ أكرَهُ خالي.

 

ـ هو الآخَر؟ أنتِ على ما يبدو تكرهين الجميع.

 

ـ لا .. فأنا لا أكرهُكَ كما أكرهُه... أنتَ لَم تفعَل لي شيئًا.

 

ـ ماذا فعلَ بكِ؟!؟

 

ـ إنّه... كيف أقولُ لكَ ذلك... فأنا أخجَل مِن...

 

ـ مهلاً... هل تقصدين أنّه...

 

ـ أجل، في البدء كانت نظراته ذات معنى وبعد ذلك صارَ يعمَل جهده للتواجد معي لوحده. ثمّ صارَ يتقرّب منّي شيئًا فشيئًا، إلى حين دخَلَ غرفتنا في إحدى الليالي.

 

ـ الوغد! سأُلّقِنه درسًا! يا إلهي، إنّه خالكِ!

 

ـ بل نصف خالي... فهو أخ أمّي غير الشقيق مِن زواج آخَر.

 

ـ يا حبيبتي، أنا آسف أن يكون قد حصَلَ لكِ ذلك. ولكن هل هو استطاعَ أن...

 

ـ لا!!! بل ركَلتُه برجلي فخرَجَ مِن الغرفة بسرعة. إسأل ابنتكَ.

 

ـ أُصدّقُكِ يا حبيبتي، فلا شيء كان سيُعيدُكِ إلى هنا إن لَم يكن خطيرًا. فأنتِ صبيّة عنيدة للغاية!

 

ـ أعلَم ذلك... لكنّني تعلّمتُ شيئًا مُهمًّا: أنتَ رجُل صالِح... وقد كنتُ مُخطئة بشأنكَ. وأنتَ عاملتَني بالفعل وكأنّكَ أبي، لَم تُحسِبني يومًا إبنة رجُل آخَر ولقد حافظتَ عليّ، على خلاف ذلك العديم الأخلاق. كنتُ حاقِدة عليكَ لأنّكَ أخذتَ مكان أبي في حياتنا وكنتُ مُشتاقة إليه كثيرًا. لَم أعِ الفرصة التي أُتيحَت لي بالحصول على أب بديل بهذا اللطف والأخلاق. سامحني أرجوكَ.

 

ـ بالطبع أُسامحُكِ!

 

ـ هل تقبَل بي مُجدّدًا في بيتكَ؟

 

ـ هذا ليس بيتي بل بيتُنا.

 

في تلك الليلة بكيتُ كثيرًا في سريري لكثرة سعادتي بعودة ابنتي وديما إليّ، وأدركتُ عظمة الله الذي بفضله يعودُ كلّ شيء إلى مكانه الصحيح. يبقى طبعًا أن يعودَ ولدايَ كما عادَت ديما إليّ، وأنا واثق مِن أنّ ذلك سيحصل يومًا، عندما يحين الوقت لذلك.

 

حاورته بولا جهشان

المزيد
back to top button